التاريخ لا يعطي دروسه مرة واحدة، لكنه يعود بين الفينة والأخرى، وخاصة في الذكرى السنوية، ليلقي على مسامعنا الدروس نفسها ولكن بطريقة مختلفة.
سبعة وعشرون عاما مرت منذ أن غدر الشمال بالجنوب، وقررت جمهورية الخوف إضافة محافظة جديدة على أن يضع لها القائد المهيب أنيابا مهشمة بعد تثبيت أوهام ممزقة في أذهان العراقيين الذين صدقوا حماية البوابة الشرقية فارتموا على البوابة الجنوبية.
الكويت سيدة المسافات الحزينة أرهقها قيظ الصيف، وخدعها سلام الجيران، وخدرتها طيبة أهلها فظنوا أن الحدود مفتوحة على القلوب، وأن الشياطين مصفدة في بغداد، وأن البطون التي امتلأت في العراق بخيرات الكويت لن تقضي حاجتها في أماكن طاهرة.
كانت أحلام العراقيين لا تخرج عن مداعبة الخيال بالعمل في الكويت أو زيارتها أو التنفس فوق أرضها ليوم أو بعض اليوم قبل العودة لجمهورية الفزع.
في «كليلة ودمنة» كان الحيوان إنسانا ناطقا، وفي عراق صدام حسين كان الإنسان حيوانا مفترسا، فإذا افترس نهش، وإذا هاجم مزق، وإذا مزق تصاعدت أبخرة الكراهية كأنها تمهد ليوم القيامة فلا تدري أين تقف الحدود القصوى من القسوة!
أما الحدود الشمالية للديرة فقد مزقتها أقدام همجية ظن التاريخ بسذاجته أنها لن تقترب مرة أخرى من الخليج الدافئ بعد حرب الثماني سنوات، فإذا بها تختار المكان الذي لا تسير في شوارعه دبابة أو مدرعة، فأكثر من قرنين من حكم آل الصباح الكرام كادت الرياح تستأذن قبل الهبوب لئلا تجرح وجها كويتيا.
في أعوام الغليان الثمانية كان الجنود العراقيون على الجبهة ينتظرون ما لم يفض عن حاجة الكويتيين من طعام وشراب، فبدا الأمر كأن كل عراقي بعد انتهاء الحرب سيدخل عنوة (!) إلى الكويت، ويقوم بتقبيل أيدي أهلها على كل ما قدموه، لكن فجر الثاني من أغسطس نفخ الروح في هولاكو الجديد، ولم تتبرك أقدام الشكر بالكويت، إنما تحولت إلى أقدام همجية جاءت لتنتقم من محبة الكويتيين لأشقائهم في الشمال.
الجهاز الهضمي للجندي العراقي كان يتلقى التوجيهات من بغداد فيرى الصحراء غابة بدون أشجار، وكان على الجندي الذي حارب في الثمانينيات وهراوة قائده فوق رأسه أن يحارب هذه المرة نساء وأطفالا وشيوخا مسالمين، وأن تتحول على يديه معاهد العلم والثقافة والسلام والديبلوماسية وجامعة الكويت إلى ثكنة عسكرية بطول الديرة وعرضها.
في تاريخ الحروب والغزوات في العالم كله كانت القسوة تصنع الكراهية على نار هادئة، وفي الكويت صنعتها محبة من نوع غريب فأشاوس طاغية بغداد لم يدخلوا وفي أيديهم بوكيهات ورود للتعبير عن العرفان والشكر والفضل، إنما انفجر بركان من البغضاء تحت الأقدام الهمجية.
في منتصف الثمانينيات اتصلت من أوسلو بالكاتب الوطني الرائع عبدالله أحمد حسين الرومي، رحمه الله، بعدما تناثر في الإعلام حديث عن قرب انتصار الإيرانيين على جيش صدام حسين.
سألته: كيف هي أخبار الكويت؟ رد على الفور: العراق بخير!
جملة اختصرت عبقرية الطيبة الكويتية، أو السذاجة، وتأثيرها على مشاعر الجيرة فبدا المشهد كأن العراق في حماية الكويت الصغيرة.
بعد أقل من أربع سنوات كانت صدور الأشاوس مشبوكة بأشواك صدئة ارتوت من خيالات مريضة شهدتها أم كويتية تلقت الأوامر من جنود الاحتلال بأن تطل من نافذة دارها على جثة ابنها وهي ملقاة في الشارع أمام البيت لمدة ثلاثة أيام، لا يسمح للأم أن تسحب الجسد الطاهر المسجى على الأرض، فالكراهية كانت مصنوعة قبل الغزو، شمت رائحة البارود، وداعبتها خيالات ديكتاتور مريض فصنع لجنوده ما يمكن أن نطلق عليه جيشا من الذئاب تمتد رئاتها من الكويت إلى العراق.
أغلب الظن أن صانعي فيلم كوكب القرود استوحوا من الشهور السبعة الجحيمية فكرة الغزو، والعجيب في يوم الغدر الأغسطسي كانت قدرة طاغية بغداد على اقناع شعبه وجيشه ونفسه أن الأعداء ليسوا في الشرق أو الشمال أو حتى في الغرب، حيث النصف الثاني من حزب البعث العربي الاشتراكي، لكنهم كانوا في الكويت التي كانت تغلق الحدود ليلا في سنوات الحرب الثمانية، وتمرر خلسة ما يحتاجه العراقيون مما حرمتهم منه الحرب والقائد.
يحتاج المشهد المقزز لجنود عراقيين جاءوا لتحرير الكويت من إمارة الخوف وضمها لجمهورية الملائكة إلى كل علماء النفس لتحليل ظاهرة دخول قصور وبيوت أثرياء، فيخلع الجندي المحرر سرواله، المفترض فيه أنه رمز كرامة الجيش، ويجلس فوق سجادة فارهة وناعمة، فيتغوط عليها في مشهد غثياني ومخيف من لمحات كوكب القرود.
هل للقسوة حد أقصى؟
لا أظن، فصورة شحن مئات الكويتيين الأبرياء في عملية اختطاف وقرصنة، ثم مساومتهم إعلاميا وتفاوضيا، كانت إثباتا أن الكويت تعرضت لأسوأ ما يجيش في النفس البشرية من رقصات الشياطين.
وكانت المفاجأة التي وقف العراقيون مشدوهين أمامها: فالكويت ظلت لسنوات بعد التحرير تطالب في كل المحافل الدولية بمعرفة مصير أبنائها المختطفين، ما أذهل العالم، فالمواطنة ليست فقط شراكة في قطعة أرض، إنما هي لحم وشحم وروح.
كنت لا أتفهم أحيانا دعوات المصالحة فقد تخيلت أن لي أخا أو ابنا أو صديقا لم يفرج عنه أشاوسة الغدر، لذا عندما استقبلني سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح في قصر بيان عام 1993، حدثت سموه، رحمه الله، عن تداعيات فكرة المصالحة.
احتقن وجه سموه الكريم، وكان يبادلني محبة بمثلها، وقال: لو صفحت الكويت كلها عن القتلة، ونسي الناس ما حدث خلال الغزو، فأنا سأبقى وحيدا لا أصفح عنهم.
في أول لقاء بالشيخ سعود ناصر الصباح الذي دعاني لزيارة الكويت بعيد توليه منصب وزير الإعلام، وكان يتابع «طائر الشمال» وهي تأتيه إلى العاصمة الأميركية وتحمل هموم الكويت.
قلت له، رحمه الله: لقد تلقيت رسالة من رئيس تحرير «البيادر السياسي» في فلسطين المحتلة جاك خزمو يطلب مني التوسط لدى معاليكم حتى تفتح أبواب الكويت مرة أخرى.
تغيرت تعبيرات وجهه، وكانت الأخت هالة الغانم حاضرة اللقاء، وكان رده لا يختلف عن رد سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح، تغمدهما الله بواسع رحمته.
لم تكن فضلات الكراهية قد جفت من جسد أشاوس الغدر، فقد قتلوا الإنسان والحيوان، ونهبوا الخيرات، وسرقوا السيارات (في مرآب عدي صدام حسين كانت تقف مائة سيارة كويتية فارهة سرقها اللص الصغير)، حينئذ لم يكن أمام المغول الجدد إلا آبار البترول الكويتية فأشعلوها لعلها تغطي على لهيب الصدور.
الآن بعد سبعة وعشرين عاما من رقصة الشيطان فإن كل عراقي يحلم بعراقية الكويت لا يختلف عن جنود الغزو ولو جاء بعدهم بعدة عقود.
كان من المفترض أن يقيم العراقيون لكل شهيد كويتي من المختطفين الأبرياء نصبا تذكاريا أو تمثالا تعبيرا عن الندم والاعتذار وتقريع الضمير.
وفي كل عام سيلقي التاريخ على مسامعنا محاضرة جديدة عن أغسطس الغدر، والغريب أننا سنكتشف في كل مرة عوالم وخفايا وسراديب ومتاهات مجهولة في النفس العراقية التي اشترك أصحابها في يوم القيامة الذي بدأ فجر الثاني من أغسطس 1990.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
Taeralshmal@gmail.com
أوسلو في الثاني من أغسطس 2017