الأحد، 24 يونيو 2018

الشيخ نواف الأحمد .. الوفاءُ مجســَّــدٌا


الوطن ليس قطعة من الأرض فقط، لكنه مصنع للرجال وإذا قام باغٍ أو محتل أو مستعمر بمحاولة إغلاقه، فبعض الرجال قادرون على إعادة فتحه في الخارج ريثما يندحر الغزاة!

والكويت حالة على حدة، فهي تصنع رجالها وتقوم بإعادة ربط حبل السُرة بين ترابها وروح رجالها، فتقصر المسافات، وتتقلص الأزمنة، ويصبح الوطنُ حالةً من الحب الذي لا تستطيع قوة في الأرض أنْ تزحزحه عن مكانه قيد ذرة.

عندما اختار صاحب السمو الأمير وليَّ عهده، وقدَمه إلى مجلس الأمة كادت الدهشة ترتسم على وجوه كل الأعضاء، فليس هناك من يعترض أو يتردد أو يُعيد التفكير لعله يأتي بنتيجة أخرى غير الإجماع، فالشيخ نواف الأحمد في كل بيت كويتي، وفي كل شبر من أرضها، وفي كل قلب.

قال لي الدكتور عبد الرحمن العوضي في حوار جانبي بحفل في الكويتالشيخ نواف الأحمد رجل دولة من الطراز الأول، وهو قادر علىَ تحمل مسؤوليات يعجز عن حملها أولو القوة من الرجال.

الأرض الصُلبة التي تضرب جذورها في العمق المكاني والزماني، تستطيع أيضا أن تمد جذورها إلى البحر، وتعرف عاشقها من علاقته بالبحر والصيد والأمواج وركوب الأخطار، وكلها اجتمعت في الشيخ نواف الأحمد.

كان سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح، رحمه الله، قلقاً بشدة وهو على الحدود السعودية يُعد العُدة للبدء في مقاومة جحافل الغزو، كأكثر قوى المقاومة على مدار التاريخ، أي تمد مقاومتها في كل مكان ، وطلب من وزير الدفاع الشيخ نواف الأحمد أن يعيد ترتيب أولوياته مع جنوده في المقاومة من مكان أكثر أمناً، لكن الشيخ نواف الأحمد انتظر مع جنوده حتى اللحظة الفاصلة بين قبضة العدو و.. بين اختيار مكان آخر يعجــّــل في عودته إلى الوطن المحرر.

قادر على تكييف كفاءاته وإمكانياته وقدراته في أي منصب يتولاه، وكان يردد دائماً وبتواضع شديد بأن مكانه حيث يأمر صاحب السمو الأمير.

وظن الأعداء أن الديرة أضعف من أن تتصدى للارهاب، فعاد الأمن إليها عندما تولىَ وزارة الداخلية في أحلك أوقات التربص الخارجي بالكويت.

تولى وزارة الدفاع حيث سنَّ جيران الشمال أنيابهم بأوامر من طاغيتهم، ولم يــَــخـَـف، ولم يتردد في حشد الأقل لمواجهة الأكبر، وسربوا شائعة اصابته الخطيرة ليفتوا في عضد جنوده، لكن روحه، وهو حيّ أطال الله عمره، كانت قد سرت في صدور جنوده، فقاوموا بها، حتى تأكدوا أن قائدهم معهم جسداً وروحاً.

كان وزيرا للشؤون الاجتماعية والعمل، وظهر جانب آخر لم يكن يعرفه أكثر الناس، أي التناغم والانسجام بين الحسم في شدته، والرحمة في عمقها، فكان الملاذ والملجأ لكل من بحث عن العدل في المساعدة والدعم المالي والتعاطف الأسري، وكان الكويتيون وغير الكويتيين على قدم المساواة حتى أنه أمر بأن تلحق الأسرة بربها الوافد وإمام المسجد المقيم في الكويت.

كان نائبا لرئيس الحرس الوطني، وكأن العسكرية بيته الثاني فقضى سنوات أثرى فيها هذا الجهاز بالقوة والسلاح والتدريب وأدخل مناهج علمية وأرسل شبابا لتلقي أحدث طرق التعامل مع البرمجة والحاسوب.

ظل، رعاه الله، متسامحاً معي في كل الأمور التي أبلغت سموه انتقادي، محبة في الكويت، وعندما استقبلني في مكتبه بوزارة الداخلية ولم أقم باختيار كلماتي بعناية، وقلت لسموه بأن ركاب الطائرة البريطانية القادمة من لندن صدموا لسلحفاتية مكتب التأشيرات، وتأخر فتحه، وأن الركاب تهامسوا عن وزارة الداخليةارتسمت فورا علائم الغضب على وجهه الكريم، ووعدني أنني سأرى في مطار الكويت في زيارتي القادمة شيئاً يدخل السرور، ويحسّن صورة الكويتوفعلا أوفىَ بوعده.

لم يسع إلى منصب، ولم يفرح بالصعود الوظيفي، فكان يتلقى توجيهات صاحب السمو كجندي في اليوم الأول لمعسكر تدريب، حتى عندما أصبح الرجل الثاني في الكويت لم تظهر على يومياته أي تغييرات كبيرة، فهو هاديء الطبع، يعشق البيت وأولاده، وظيفته زوج مثالي ووالد يُربــي ويعلّم وينصح ويسمع ويقدس الحياة الأسرية حتى على مائدة الطعام العائلية التي ليس فيها من يشغله آي فون أو موبايل أو رسائل جانبية، فهذا وقت الأب والأم.

عندما يشرع في الإجابة على سؤال فإنه ينصت للنهاية، ويفكر، ويمنح محدثه حقه في بشاشة الوجه ليضفي روح الاطمئنان.

كل المسؤولين الكبار في العالم أجمع يستريحون من وعثاء العمل المستمر والاجهاد بالسفر والتريح والاسترخاء في أحضان الطبيعة، أما سمو ولي العهد الشيخ نواف الأحمد فراحته في الكويت، وسفره البعيد بين برها وبحرها، بين صحرائها و.. بيته الدافيء.

يشتاق للكويت فور وصوله إلى المطار مغادراً، وفور انتهاء مهام العمل في الخارج يختصر ما بقي من أيام إلى ساعات، ثم إلى دقائق كأن الكويت لا تستطيع صبراً، والحقيقة أن سموه هو الذي لا يستطيع بُعداً.

يحب الموسيقى، فمن لا نغم في ذكرياته لا يمكن أن يجدد يومهيستمع إلى أولاده مهما كانت شكاواهم، ويتفهم منطقهم، ويخفي حسم المنصب خلف حب الأب، فالأولوية للأبوة.

مضت ثلاثون عاما على معرفتي بسمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، ورأيت في سموه كل الصفات الجميلة والنبيلة وفي مقدمتها الحياء والوفاء والشرف والشجاعة والوطنية.

لم تخرج من بين شفتي في ثلاثة عقود كلمة أسرّ لي بها في لقاء خاص، وغضب مني مرة واحدة ابريل 2008 )، لكن معادن الرجال تعيد تلميع الغضب وإزالة ما علق به من عتاب، ليتحول إلى تسامح عجيب كأن الحادث أزيل من الزمن نهائياً.

كانت أسعد لحظة في علاقتي الجميلة عندما جاءني صوته الدافيء في مكالمة هاتفية، فبراير 2006، كأن الديرة حملتها لي في أوسلو وقد عرف أنني أريد تهنئة سموه بثقة صاحب السمو ومجلس الأمة ولياً للعهد.
اليوم 25 يونيو يحتفل كل محبي سموه بعيد ميلاده، أطال الله عُمره، وأدام عليه الحة والسعادة والخير والبركة.


وحفظ الله الكويت من أي مكروه.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين